أم آدم أمام باب سجن تيفلت (تصوير مصطفى الحسناوي)
بقلم: مصطفى محمد الحسناوي
أكتب هذه الشهادة لله والناس والتاريخ، وقد عاينت هذه
الحادثة بكل تفاصيلها واطلعت على كم هائل من الوثائق والشواهد، وكنت شاهدا على
فصولها الدرامية التي تؤثر في الحجر فأحرى البشر، فأقول مستعينا بالله:
لم أتصور وأنا أتلقى مكالمة من السيد مولاي عمر العمراني
هادي، زوج السيدة فتيحة حسني، طالبا من مرافقتها في زيارتها الرابعة للسجن المحلي
بتيفلت في أول أيام رمضان، للوقوف على الحيف والظلم الذي يطالها بمنعها من زيارته،
لم اتصور أن أقف على تصرفات أقل ما توصف بها أنها نازية وسادية وعنصرية مقيتة، من
جهات تدعي حماية الوطن والمواطنين والسهر على أمنهم وحقوقهم ومتطالباتهم.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب
وصلت على الساعة العاشرة صباحا، وجدت السيدة أم آدم أمام
باب السجن منذ الصباح الباكر، كانت أفواج الزائرين تتعاقب محملة بمؤونة رمضان في
أول أيام رمضان، توالى دخول الزائرين، كلما خرج فوج دخل آخر، والسيدة أم آدم مسمرة
في مكانها، ممنوعة من الدخول، غاب آخر فوج من الطابور الطويل داخل سور السجن، وغاب
معه شريط الظل الذي يستظل به الزوار، وبقيت تلك السيدة المتشحة بالسواد تتقي أشعة
الشمس الحارقة تارة بيدها وتارة ببعض الأوراق وأحيانا برشات ماء على رئسها لتخفف
من الحرارة الملتهبة، أما أنا فكنت أذرع تلك البيداء القاحلة جيئة وذهابا، منتظرا
الفرج إما بالسماح لها بالزيارة أو بعدولها عن فكرة البقاء أمام باب السجن طوال
اليوم إلى وقت خروج الموظفين، فجأة قامت تطرق باب السجن بقوة مطالبة بمقابلة مدير
السجن محمد لوساوي، بعد حوالي نصف ساعة خرج ليخبرها أنه لن يسمح لها بالزيارة،
بلغة مستعلية مستفزة لا تخلو من نبرة آمرة بالانصراف، ثم عاد أدراجه قبل أن يسمع
منها كلمة واحدة، بعدها بلحظات خرج محاميها الأستاذ توفيق مساعف الذي كان في زيارة
لزوجها، ليخبرنا بفظائع سمعها من المعتقل مولاي عمر العمراني هادي، أثناء تعذيبه
بسلا2 وتولال2، وسيكون تقرير المحامي جاهزا يوم الإثنين 23 يوليوز. انصرف المحامي
تاركا الزوجة في دوامة من الحيرة والحسرة والألم والذهول، في تلك الأثناء بدأ
يتكون طابور طويل آخر من الزوار، سرعان ما غاب وراء بوابة السجن، أفواجا أفواجا
محملة بأصناف المأكولات والمشروبات والألبسة والأفرشة وأجهزة الترفيه كالتلفاز والأجهزة
الإلكترونية، في حين تقبع تلك السيدة تحت الشمس الحارقة هي وقفتها المملوءة ب:
"شهيوات رمضان" والألبان والأجبان، والتي تحولت إلى خمائر تفوح منها
رائحة الحموضة، جراء تلك الأجواء اللافحة القائظة، نفذ صبر السيدة أم آدم وتوالت
طرقاتها على الباب مطالبة بمقابلة المدير مرة أخرى، خاصة بعد دخول سيدة لزيارة
زوجها المرتبطة به دون عقد، لكن أحدا لم يسمع شكواها، ثم بدأت تستعطف الموظفين وكل
من كان يدخل السجن من المسؤولين أن يدخلوا فقط القفة لزوجها، كي لا تفسد
محتوياتها، دون جدوى.
حقيقة، لم أر قسوة ولا ظلما كالذي عاينته ذلك اليوم،
فجأة ثار البركان الخامد وانتفض الجني المارد، داخل تلك السيدة وانطلقت كالإعصار
تبعثر محتويات قفتها من فواكه وخضر وحلويات وعجائن وأجبان وتمور ومشروبات، ذات
اليمين وذات الشمال، صارخة بآهات شقت السماء وكسرت سكون الفضاء، آهات الألم والظلم
والقسوة والحكرة غطت الأجواء، تماما كما غطت المأكولات المبعثرة مساحة كبيرة أمام
باب السجن، ليخرج المدير وبعض مسؤوليه مهددا إياها بإحضار رجال الأمن، ثم وجه إلي شخصيا
سؤاله، من أنت؟، فأخرجت بطاقتي الوطنية وقلت له مواطن مغربي، يحق لي أن أقف في أي
بقعة من بقاع هذا الوطن مادمت ملتزما بعدم الإخلال بحقوق ولا بحرمات الآخرين،
فحاول إخافتي بالقول: بأي صفة أنت هنا؟، فأجبته مواطن مغربي مسلم متعاطف عقديا
وأخلاقيا وإنسانيا مع هذه السيدة المظلومة، فما كان منه إلا أن دخل هو وزبانيته،
على وقع صراخ السيدة وبكائها ودعواتها عليه وعلى من ظلمها بدعوات مزلزلة ترعب من
يسمعها، ثم أقبل رجال الأمن محاولين فهم ما حدث، فأخبرتهم بالقصة، ثم أمدتهم بملف
يحوي مجموعة من الوثائق تبين أن الدولة هي من تمنع هذا الزواج وتقف حائلا أمام
توثيقه. سلسلة من الإجراءات والمساطر والقوانين والوثائق، حتى تشرف العملية على
الانتهاء، ثم يرحلون الزوج لسجن آخر لتصبح كل تلك الإجراءات الوثائق لاغية، لتبدأ
الكرة من جديد، بل حتى لما أنهت كل الإجراءات في مرة من المرات وبقيت الخطوة
الأخيرة وهي إحضار العدول لداخل الزنزانة من أجل توثيق العقد وأعطى المدير
موافقته، تراجع هذا المدير في آخر المطاف وبشكل مفاجئ ومنع العدلين من الدخول. وقد
كان مدير منتدى الكرامة السيد محمد حقيقي شاهدا على الحادثة، وتتوفر أم آدم على
شهادة موقعة منه بخصوص هذه الحادثة التي توسط فيها شخصيا. أطلعت السيدة أم آدم
رجال الأمن على ملف كامل من الوثائق ويضم:
1ـ قرار بالإذن بولوج عدلين للمؤسسة السجنية لتوثيق
الزواج صادر عن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالرباط مؤرخ بـ 8 مارس 2011.
2ــ قرار بالإذن بولوج عدلين
للمؤسسة السجنية لتوثيق الزواج صادر عن الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف
بمكناس مؤرخ بـ 12 يوليوز 2011.
3ــ طلب توثيق الزواج مع الإذن
بالزيارة مرفوع للوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالرباط مؤرخ بـ 8 يونيو 2012
يحمل ختم التوصل بتاريخ 13 يونيو 2011.
4ــ إشهاد للأستاذ محمد حقيقي
المدير التنفيذي لمنتدى الكرامة لحقوق الإنسان في موضوع وعد حفيظ بن هاشم بتوثيق
الزواج و منع العدول من ولوج المؤسسة السجنية.
5ــ شهادة بوضع طلب ثبوت الزوجية لدى محكمة قضاء الأسرة بمكناس
6- عشرات الشهادات الشخصية على صحة زواج المعنيين
بالأمر، موقعة من عشرات الأشخاص بينهم الزوجة الأولى للسيد العمراني مع تصحيح
الإمضاء.
كما أنها حضرت ثمان جلسات أمام محكمة قضاء الأسرة ولم
يتم إحضار زوجها لأي جلسة من الجلسات الثمان من طرف النيابة العامة رغم أمر القاضي
بذلك في كل جلسة. و تم الحكم في النهاية بإحالة الملف على محكمة الرباط بعد ترحيل
الزوج إلى سجن سلا 2 دون أن يطلب ذلك. مضيفة أن حفيظ بن هاشم قال للمحامي عبد
الصمد الإدريسي عندما زاره في بيته أول مرة في شتنبر 2011: إلى بغيت ندير معاها
التمكريه غادي نحولو ليها لسجن آخر مللي يقرب يتحكم ليها الملف ديالها.
وأخبرت السيدة أم آدم رجال الشرطة احرف، أنها بالرغم من
كرهها للقانون وموقفها منه إلا أنها التزمت به، لكن المؤمنين به ودعاته وحماته من
مسؤولي هذه الدولة لا يطبقونه ولا
يحترمونه، كانت حجة السيدة فتيحة حسني قوية بحيث لم يبد أي رجل أمن الاعتراض على
أقوالها، بل كانت علامات التعاطف والحسرة بادية على وجوههم، ثم فعلت نفس الشيء مع
كل من حضر وعاين الحادثة في حملة دعائية مضادة كانت حجتها آنذاك قوية داحضة، حيث
أطلعت الحضور على تفاصيل القضية مدعية أن الدولة التي تمنعها من الزيارة بحجة عدم
توفرها على عقد الزواج هي نفسها التي تمنعها من توثيق زواجها رغم اتباعها للمساطر
المعمول بها، وأنها على هذه الحالة منذ أزيد من سنة ونصف، مفجرة قنبلة خطيرة لاتقل
عن تصريح بن هاشم القاضي بترحيل زوجها كل
وقت و حين، لتفصح عن اسم مسؤول كبير قال
أنه سيتركها بدون زواج وسيعمل المستحيل ليحول بينها وبين إتمام إجراءات زواجها،
حاملا لواء إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ومحاربة العفة والفضيلة، بمنعه الزواج عن
سبق إصرار وترصد.
بعد تلك المرافعة الطويلة عادت لحالة الهستيريا التي
كانت عليها من بكاء ودعاء على الظالمين مدة ساعة تقريبا دون انقطاع، حتى أشفقت
عليها وخفت عليها الهلاك في تلك الأجواء الحارة وهي مسافرة وصائمة، وبقيت على تلك
الحالة إلى أن خارت قواها ولم تعد تقوى على الكلام ولا الحراك، ثم بقيت جامدة في
مكانها إلى أن خرج آخر الموظفين، وبصعوبة أوصلتها للطريق الرئيسية، بعد أن حملت
عنها كل متاعها.
على الأقل عاينت في زيارتي المأساوية تلك، حالتين
مشابهتين لحالة أم آدم:
امرأة ممنوعة من توثيق عقد زواجها وهي تحت رحمة المدير
يسمح لها بالدخول متى شاء ويذكرها في كل مرة بفضله عليها.
وفتاة في ربيعها الثامن عشر اسمها حياة الخالدي تزوجت
بالشاب سعيد بريك البالغ من العمر 24 سنة، وقبل توثيق عقد زواجها ألقي عليه القبض بتاريخ
14_01_2012، في قضية مخدرات، وحكم عليه بسنتين ونصف سجنا وهي منذ ذلك الوقت تتكبد
عناء التنقل من بوقنادل إلى سلا ثم إلى تيفلت التي رحل إليها مؤخرا، وتمنع كل مرة من
زيارته وأيضا من توثيق عقد زواجها في حالة مشابهة لأم آدم.
لم أحس بمرارة المعاناة كما أحسستها ذلك اليوم، لم
أستشعر أن تمنعك جهة من رؤية من تحب وتستمتع بذلك، كما استشعرتها ذلك اليوم، لم
أدرك معنى الصبر والوفاء والنضال كما أدركتها مع تلك المرأة، ذلك اليوم في تلك
الزيارة، وهي التي داومت عليها مدة سنة ونصف دون كلل ولا ملل، حين أخبرتني في طريق
عودتنا أن مثل هذه التصرفات هي بمثابة الجرعات أو بمثابة شحن بطارية الحقد تجاه
مسؤولي وقوانين هذه البلاد، لكي تبقى دائما مشحونة، لم أجد ما أعترض به عليها،
فالتزمت الصمت. حين سألتني هل تعلم كم رتبة المغرب في السياحة الجنسية لم تنتظر
جوابي فبادرتني أننا نحتل الرتبة الثانية بعد تايلاند، ثم أردفت بسؤال آخر لماذا
لا يطلبون عقد الزواج بالنسبة للسياح في فنادقهم وباراتهم وشققهم المفروشة، لماذا
يتغافلون عن الزنا واللواط داخل السجون ويباركونه، ويمنعون لقاء الزوج بزوجته، لم
أجد ما أجيب به، لكنها أجابت حسب ما تعتقد إنه الانتقام الأعمى وأوامر أمريكا، حين
أخبرتني أنها كانت عند طالبان معززة مكرمة محترمة يستحيل أن يهينها أو يحتقرها أو
يجرحها رجل لأن تلك البلاد فيها الرجال الكرماء الذين يكرمون المرأة ويحترمونها
ولا يهينونها مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يكرمهن إلا كريم ولا
يهينهن إلا لئيم"، حرت في الجواب وأنا أرى مسؤولا يمتنع عن مجرد إدخال القفة،
وهو يتوفر على كامل الصلاحيات طبقا لمقتضيات الفصل 75 من القانون المنظم للمؤسسات
السجنية والذي ينص على أن من ينظم الزيارة هو مدير المؤسسة السجنية وأنه يحق
للمعتقلين استقبال عائلاتهم وذويهم، كما أن للمدير الحق في الترخيص لأي شخص آخر
بزيارة المعتقل كلما كانت هذه الزيارة مفيدة لإصلاحه.
كانت أسئلتها واستفساراتها تتناسل وتتوالد وتنشطر، لتخرج
كسيل جارف يسوق كل المسلمات والبدهيات المتعلقة بالمواطنة وحقوق الإنسان وحقوق
المرأة واحترام القانون ووو...، وأنا هنا أنقل كل تساؤلاتها من باب الأمانة
والشهادة.
فقد تساءلت باستغراب، أمام الجميع: من يحكم المغرب؟ هل
هو الملك أم أجهزة أخرى؟ إذا كان وكلاء الملك يعطون رخصا وأوامر، ثم لا يكون لها
أي قيمة أو أثر، بل يضرب بها عرض الحائط.
تساءلت بمرارة أنه بإمكانها أن تزور عن طريق التوكيل وهي
المسطرة التي يزور بها عدد من الناس، بحيث يمنح هذا الإجراء، السجين أن يوكل أي
شخص لزيارته بل من حق أحد أقربائه كزوجته مثلا أن توكل شخصا آخر ليزوره مكانها في
حالة غيابها، لكن حتى هذا الإجراء البسيط والمعمول به، تقف جهات ما أمامه، وتمنعها
من الاستفادة منه، إمعانا في الانتقام منها، انتقام بعيد كل البعد عن عقلية الدول
والمؤسسات والأجهزة والإدارة، وهو إلى عقليات "عيالات الدرب ومدابزات الحمام
وشد ليا نقطع ليك"، أقرب.
ختمت كلامها معي بأنها اشتاقت للعيش تحت حكم طالبان،
التي كانت ستحارب من أجلها، عوض هؤلاء الذين يحاربونها من أجل الآخرين؟ وتمنت لو
تستطيع التخلص من هذه الجنسية التي لا تنال معها أي حقوق، بل لم تجن منها سوى
الآلام والقهر والظلم.
تساءلت أنا بدوري أليس في هذه الأجهزة رجل رشيد ينهي
مأساة هذه المرأة بنصف كلمة، ويمنع هذه المهزلة التي لم تحدث في أعتا الدول
استبدادا وديكتاتورية وظلما وتجبرا، كيف يصل الأمر لمعاقبة امرأة من أجل قناعاتها
الفكرية والسياسية بهذه الطريقة في زمن حرية المرأة وحقوق المرأة وكل تلك الشعارات
الجوفاء، ألن تكون سياسة اللين والرحمة أجدى من سياسة الانتقام والقسوة؟ أسئلة حرت
في الجواب عنها، ليس لصعوبتها بل لسهولتها وبداهتها.