بقلم: مصطفى محمد الحسناوي
اشترت ثوبها الأخير، ثوبها الذي تحلم أن تلتحفه وهي
سعيدة، ثوبها الأبيض الذي سيزفها لأحبابها، ثوبا تخيلته مطرزا ومذهبا ومزركشا،
تخيلته مطرزا بكل أنواع الطرز التقليدي اليدوي الرباطي والفاسي والتركي، أومصمما
على أحدث صيحات الموضة بتوقيع أمثال ستيفان رولان ، لكنها لم تكن معجبة بالفساتين
العصرية وفساتين السهرات والفساتين الرومانسية، إنها مهووسة بكل أثري قديم، تشم
فيه عبق التاريخ والحضارة، لذلك تخيلته مطرزا بخيوط العفة والقيم والحشمة، مصمما
بالهيبة والوقار والحياء، إكراما لمن ضحوا في سبيل هذه المعاني والقيم، إكرام
ووفاء بلون الإحياء والبعث من جديد، لأنها أصيلة وأيضا كريمة وواسعة الخيال، تجعل
من اللاشيء أشياء كثيرة، ومن القديم المتلاشي، حديث يشع نورا وتألقا.
لم يكن الفستان سوى قطعة قماش بيضاء بسيطة، لم يكن مطرزا
ولا مصمما، لكنها معجبة به، فهو في بياضه يعكس الطهر والنقاء، وهو في بساطته يختزل
نظرتها وفلسفتها للحياة، لأنه ثوب الآخرة.
نعم لقد اشترت كفنها، كما تشتري سائر ملابسها، ووضعته في
صوانها بغرفة نومها، كفن كلما فتحت خزانة ملابسها ذكرها بالمصير المحتوم، كفن كلما
اشتهت من طيب الملبس وزينته، وعظها في صمت.
لم يكن ذلك الثوب ليذكرها ويعظها
لو لم تذكره هي، لذلك لم يكن عبثا منها أن تضعه بين لباس دنياها الفانية، ليذكرها
بأخراها الباقية، فراحت تتهيأ للأخرى تماما كما تتهيأ للأولى، لقد سطرت درسا وعبرة
ونظرية مبهرة في فن التسوق والتبضع، أو ما يحلو لبنات جنسها من رائدات المول
تسميته بالشوبينغ، من هاويات الماركات واللاهثات وراء الرالف لاورين وكريستيان
ديور وبيار كردان.
لا يمكن لامرأة أن تعشق ذلك الثوب، إلا إن لبست ثوب
الحياء والإيمان والشوق للقاء الرحمن، لا يمكن لامرأة أن تتذكر ذلك الثوب إلا إن
نسيت كل الأثواب، ورأت فيها مجرد وسيلة تستر بها جسدها تقربا لخالقها، لا وسيلة
تثير الغرائز وتستحث النفوس المريضة.
وقفت عاجزا منبهرا أمام هذا المرتبة الراقية التي
ارتقتها، كيف لفتاة في مثل سنها، أن ترتقي تلك الدرجة من مدارج السالكين القانتين
الزهاد العابدين؟ كيف لها في وسط واقع مادي ومستنقع ضحل، أن ترتقيها؟ كيف لها أن
تدركها؟ لكنه الاصطفاء والهداية والاختيار، نسأل الله أن نكون من المصطفين
الأخيار.
استغربت حين أخبرتني بذلك، ورافق استغرابي شعور آخر، بل
مشاعر فياضة، من الاحترام والتقدير والإعجاب والانبهار والتصديق والتكذيب والدهشة
والضحك والبكاء والفرح والألم والحزن والحنين، عبرت عن كل تلك المشاعر بابتسامة
خفيفة على محياي، لكن هزة عميقة مثل زلزال مدمر كانت بأعماقي. وتذكرت قصة ذلك
الصحابي الذي أعجبه ثوب فتمنى أن يكون كفنه، ثوبه الذي يلبسه في قبره. أختم بقصته
التي أجزم أن أمثالها من القصص والمواقف لم ولن تنقطع بين أبناء هذه الأمة، لم ولن
تنقطع كل قصص الثبات والوفاء والأمانة والإيمان والجهاد والاجتهاد والبطولة
والفداء والحشمة والحياء، التي خلدتها لنا كتب السنة والسيرة، لا تزال في كل لحظة
وحين وفي كل بقعة ومكان تستنسخ وتتكرر وتحيى من جديد، إلى أن يأذن الله بالنصر.
وفي مثل هؤلاء يقال:
إن عشنا عشنا معا
وإن متنا تقاسمنا الكفن
نختم قصة صاحبة الكفن، بحديث صاحب الكفن، الذي رواه
البخاري وعنونه ب: "باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم
ينكر عليه".
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ
مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا
الشَّمْلَةُ، قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا،
فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا،
فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ، فَقَالَ
اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ
سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا
سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ
فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق