بسم الله الرحمن الرحيم
قراءات
مختصرة في أحداث الشام وأطراف الصراع
(الجزء الأول)
بقلم الصحفي مصطفى الحسناوي
كاتب مهتم بالجماعات الإسلامية
معتقل بالسجن المركزي بالقنيطرة بالمغرب
مقدمة منهجية..
مما لا شك فيه أن الخوض في أي موضوع دون امتلاك قاعدة
بيانات ومعلومات ومعطيات كافية وحقيقية لهو من الرجم بالغيب ومجازفة كبيرة. على
الكاتب والمحلل الموضوعي أن يتجنبها. ويزداد أمر القضية خطورة حين يلبس الخائض جبة
القاضي أو بذلة الأستاذ المتعالم يخطئ هذا ويحكم على ذاك معتمدا على أخبار مجتزأة
ومبتورة ومعطيات شحيحة أو أخبار مكذوبة أو مدلسة أو مشوهة أو وجهة نظر أحادية. وهي
منهجية فاسدة بجميع المعايير والموازين سواء أن تحدثنا في مجال الصحافة أو في مجال
القضاء أو في مجال التحقيق والاستقصاء أو البحث العلمي أو في مجال التأريخ أو في
مجال علم الحديث، إذ لا بد من تجميع جميع الروايات والشهادات وغربلتها ولا بد
للترجيح فيما بينها من شروط وضوابط ثم قبل هذا وذاك لا بد من توفر شروط العدالة
والثقة والضبط في الناقلين للأخبار، فآفة الأخبار كما يقال رواتها. وأنا أحد أولئك
الأشخاص الذين لا يمتلكون المعطيات الكافية والمعلومات الحقيقية، فقد حالت بيني
وبينها أسوار السجن وقيود الأسر، ولو كنت حرا طليقا لانتقلت إلى منابع الأخبار ولا
أبالي بما ألاقيه في سبيلها من أخطار فلست الذي يتلقف قصاصات وكالات الأنباء
الصادرة من جهات معلومة معروفة ولست الذي يبنى تحليلاته على أخبار يتغير شكلها
ومضمونها عند كل عملية نقل للخبر وإعادة إنتاجه وهذا هو السبب الأول والأخير في
اعتقالي لأني لم أكن أبدا مستهلكا للخبر مقيدا بخطوطه الحمراء الرسمية، بل كنت دائما
متحريا مستقصيا منتجا للخبر بمعاييره الصحيحة والحقيقية، شعاري في سبيل الحق
والحقيقة يهون كل شيء. ومع ذلك سأجازف بالكتابة في هذا الموضوع وعذري في ذلك أني
لن ألبس جبة القاضي أو بذلة الأستاذ ثم إني سأحوم حول الموضوع كالراعي يرعى حول
الحمى بكلام مجمل وعام دون تفصيل أو تخصيص أو تعيين، ثم هو مجرد قراءة أو قراءات
مختصرة تعبر عن وجهة نظر ناقصة انطلاقا مما تسمح لي كوة زنزانتي برؤيته وبما
يتناهى لي من خلالها إلى مسمعي.
بداية لا بد من وضع خريطة لأطراف الصراع في الشام، ستكون هي المفتاح للتداعيات وستساعد على اتخاذ المواقف وإسداء النصائح والتوجيهات، وبغير فهم محتويات وعناصر هذه الخريطة سيكون المتحدث كالخابط خبط عشواء.
يمكن إجمال وإبراز أطراف الصراع في الشام في أربعة أطراف أو أقسام
كبرى, أكيد أنها تتفرع وتتشعب وتتعدد لكنها تتوحد للقتال من أجل غاية واحدة هي
خيطها الناظم.
الطرف الأول: يقاتل من أجل نفسه
وكيانه ومصالحه لا يريد شريعة ولا ديمقراطية.
الطرف الثاني: يقاتل في سبيل
الديمقراطية.
الطرف الثالث: اختلطت عليه
الديمقراطية بالشريعة والتبس عليه أمرهما فهو يقاتل في سبيلهما معا.
الطرف الرابع: يقاتل من أجل الشريعة
لوحدها.
هذا التكثيف والتركيز والتجميع لأطراف الصراع بهذا الشكل، هو من أجل فهم التداعيات والصدامات التي من الطبيعي أن تحدث بين المشاريع المتنافسة وإلا فإن كل طرف من هذه الأطراف يحمل بين ثناياه ويضم في صفوفه عوامل الصراع والتفرقة رغم وحدة الهدف والرؤيا والمنهج والعقيدة، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية.
هذه القراءات المختصرة معنية بالصراع بين الطرفين الأخيرين الثالث والرابع، وبشكل أكبر وأهم بالصراع البيني بين عناصر ومكونات الطرف الرابع، لأن كل الصراعات الأخرى عادية وحتمية ولا بد من صراع ومواجهة بين مشاريع الاستبداد والديمقراطية والشريعة، لذلك فإن أي مواجهة واقتتال وتغيير للمواقع بين هذه الأطراف، بالنسبة للمتابع أو للصحفي الواعي بطبيعة الصراع هي من باب قاعدة الخبر الصحفي التي تقول: أن يعض كلب رجلا ليس خبرا، الخبر هو أن يعض رجل كلبا. ومن باب السماء فوقنا كما يقال.
قبل الخوض في صلب الموضوع لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة للتأمل وشحذ الذهن، أسئلة عقدية منهجية و فلسفية مطروحة على الجميع.
أسئلة عالقة:
ـ هل الديمقراطية والشريعة يمكن أن يجمعهما مشروع واحد؟
ـ كيف السبيل إلى تحقيق الشريعة وبسط قيمها وأحكامها؟
ـ هل يمكن ذلك على أرض بلا شعب أو شعب بلا أرض؟ أم لا بد له من شعب
وأرض وقوة ومنعة وتعاون؟
ـ ما مفهوم الدولة وما حقيقتها؟ وهل هو مفهوم يتطور ويتجدد أم هو مفهوم
ثابت جامد؟
ـ هل ما كان يسمى دولة في القديم يصح أن نطلق عليه اسم دولة حاليا؟
ـ ما هي المبررات الشرعية والمنطقية والعقلية والسياسية والاستراتيجية
التي يستند عليها المتقاتلون ضمن مشروع وغاية وهدف واحد؟
ـ ما هي تلك المبررات التي يستند عليها المعتزلون للقتال؟
ـ ألا تستحضر تلك الأطراف قصة الثور الأبيض وضياع الثمرة ومؤامرات الأعداء؟
ـ وهل بلغت بها درجة الاستهانة بمشروع أمة وحلمها حد الاقتتال في سبيل
طموحات شخصية أو رؤى ضيقة أو مشاريع قاصرة؟
ملاحظات دقيقة:
إن الدارس والمطلع على ما كتب في السيرة والتاريخ
والسياسة الشرعية والفرق والطوائف ونشوء الجماعات الإسلامية ومشاريعها، وهي مباحث
وعلوم أساسية وضرورية كمنطلق وأرضية لكل خائض في هذا الموضوع وإلا كان متطفلا، فهي
كالمقدمات المساعدة والممهدة والتي تمد الدارس والباحث بأدوات الفهم والتحليل، وهي
كالمرجع والمعيار الذي يضبط لنا المسار ويحدد لنا الوجهة. قلت إن الدارس لتلك
العلوم والفنون لا بد أن تتجمع لديه ملاحظات وإشارات تساعده على الفهم والتفسير
والنصح والتوجيه، ومن خلال ما اطلعت عليه تكونت لدي ملاحظات وتساؤلات وفرضيات
وخلاصات قد أكون مجانبا فيها للصواب، لكن إلى أن يثبت العكس هي عندي الآن قناعة
ووجهة نظر أتبناها وأنطلق وأفسر من خلالها الأحداث. ومن ذلك:
ـ أن القتال الدائر الآن لا هو من جنس جهاد الدفع ولا هو من جنس جهاد الطلب، لأن جهاد الدفع يكون عن الأرض أو البلاد أو الدار االمحكومة بالشريعة، والسلطة فيها للمسلمين حكاما ومحكومين، ويتسلط عليها العدو ليحكمها بشريعته وقوانينه ويستعبد أهلها، فيتعين الجهاد في هذه الصورة دفاعا عن الدين والشريعة والأرض والعرض. وجهاد الطلب صورته معلومة وهي منوطة بوجود الدولة الإسلامية القوية والممكنة والتي تحكم بالشريعة. أما القتال الدائر الآن فهو صورة في رأيي لم تحدث وهو نازلة من النوازل التي تحتاج إلى اجتهادات وتأصيلات ذوي المعرفة والعلم والحنكة والخبرة.
ـ أن تمدد جماعة مقاتلة أو انكماشها في رقعة جغرافية معينة هو من السياسة الشرعية التي تراعى فيها المصالح والمفاسد ولا تنزل عليها لا أحكام التولي، ولا أحكام الجيش المسلم الذي يقاتل تحت إمرة الخليفة لوجود الخلافة أو الدولة الإسلامية، وكون الأمر من السياسة الشرعية فباب الاختلاف فيه وتقدير المصالح واسع ما لم يؤَدِّ إلى الوقوع في المحظور.
ـ أن للدولة أو الوطن أو الدار تعريفا واضحا ومحددا عند فلاسفة السياسة وفقهاء القانون, ومتى توفر في كيان ما ذلك التعريف وتحققت العناصر والأركان المكونة للدولة سمي دولة، وهي الأرض والشعب والسلطة والقوة والسيادة، لذلك لم يخالف أحد في تسمية المدينة بعد الهجرة إليها بدار الإسلام وعند المعاصرين بالدولة الإسلامية أو الدولة النبوية أو الوطن الإسلامي، بل حتى من الخصوم من علمانيين ومستشرقين. لكن لا تنقل لنا المصادر أن الجماعة المسلحة التي قادها كل من أبو بصير وأبو جندل، والتي سيطرت على طريق التجارة على الساحل من أرض الشام بعد صلح الحديبية، والتي أصبحت قوة ضاربة تهدد تجارة قريش وأرغمتها على التراجع عن بعض بنود المعاهدة لا تنقل لنا المصادر أن تلك الجماعة تسمت أو سميت دولة أو دارا على ما بلغت من القوة.
ـ أن البيعة تعاقد والتزام وامانة وميثاق وتعاهد على الوفاء والطأعة وفي ديننا من النصوص الحاضة والحاثة والآمرة بالوفاء بالعهود والعقود والمواثيق حتى مع غيرالمسلم. ولاتنقل لنا المصادر احدأثا او وقائع او فتاوى تجيز لطرف من طرفي التعاقد ان يتحلل او يتخلى او يفسخ العقد من طرف واحد بدون موجب شرعي وأن يفسخ بيعته متى يريد وكيف يريد وأنى يريد وأن يغير صفقة يده وثمرة فؤاده كما يغير حذأءه وجواربه. وإلا فسدت العهود والعقود والمعاملات والاتفاقيات وعمت الفوضى والعشوائية.
ـ أن الخوارج فرقة لها اصول وقواعد عقدية. لكنها اشتهرت بالخروج على الحاكم العادل الذي يحكم بالشريعة. وهذه الصفة والسمة والعلامة غير اللازمة لا تكفي لوحدها لوصف طائفة أنها من الخوارج ما لم تشترك معها في اصولها وقواعدها.
ـ أن الخارجين من المسلمين على المسلمين يسمون بغاة لا يطارد الفار منهم ولا يجهز على جريحهم ولا تسبى نساؤهم ولا تغنم أموالهم وأن القتال بينهم يسمى فتنة. وهو قتال له أحكامه وضوابطه المختلفة عن قتال المشركين وقتال المحاربين واللصوص وقطاع الطرق من المسلمين؛ والاقتتال من أجل الرياسة والحكم، والخلط بين هذه الصور والحالات يؤدي الى نتائج وتحليلات فاسدة.
ـ
أن الارهاب والتطرف والتشدد مفاهيم فضفاضة ونسبية. فما تعتبره دولة أو ثقافة أو
حضارة إرهابا هو ليس كذلك عند غيرها. وأكبر مثال هو ان تصنيف عسكر مصرلجماعة
الاخوان كجماعة إرهابية لم توافق عليه حليفتهم وراعيتهم أمريكا. وتنظيمالقاعدة
بفروعه الذي تجمع كل الدول على انه إرهابي بل هو الارهاب المحدق.أصبحت الكثير من
الدول تراهن على فرعه في سوريا (جبهة النصرة) لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية في
العراق والشام. وأصبح فرع القاعدة مضرب المثل في الاعتدألوالانفتاح. وكان قبل ايام
فقط مضرب المثل في الإرهاب والتطرف. بعد ان انقلبت الموازين وتغيرت الأوضاع. ومن
يدري فقد يصبح المعتدل متطرفا والمتطرف معتدلا في جولة أخرى. وقد تصبح التنظيمات
المتعاونة والمنضوية تحت الجيش الحر إرهابية إذأ انتهى دورها. الأمر نفسه بالنسبة
لمفاهيم ومصطلحات التشدد والاعتدأل فهي أوصاف خاضعة لمزأج الأقوياء ومصالحهم. ونرى
كيف أنأمريكا تصف الدول العميلة والتابعة لها بالمعتدلة. فيأخذ الاعتدأل هنا معنى
العمالة والتبعية والارتزاق.
ـ أن التسمي باسم أو وصف معين لا يمنح للمتسمي حق احتكار حقيقته فلا تلازم بالضرورة بين اسم أو صفة أو كنه أو حقيقة لذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الذين ينتهكون المحارم ويسمونها بغير اسمها ومن تم فإن الأحكام الشرعية تنزل على الحقائق وليس على الرسوم والأسماء، وأن حقيقة الشيء لا تتغير بتغير الاسم لذلك لما قال الصحابة اجعل لنا ذات أنواط قال النبي صلى الله عليه وسلم: قلتم كما قالت بنو إسرائيل "اجعل لنا إلها" فهم طلبوا الشرك الأكبر على أحد أقوال العلماء وإن سموه بغير اسمه. والحقيقة انهم طلبوا إلها وإن سموه ذات أنواط. وهم فعلوا ذلك جهلا منهم بهذه الحقائق والأسماء والمسميات ولم يقصدوا ذلك. لكن العبرة بالحقيقة والكنه والجوهر حتى وإن تسمى بغير اسمه. لذلك فالحذر الحذر من تنزيل أحكام على غير مناطاتها، وإطلاق أوصاف على غير حقيقتها، ومن ذلك البغاة والردة والبيعة والدولة والفتنة والإرهاب والتطرف والخوارج. فهي عبارات وأوصاف ومفاهيم يجب التعامل معها بحيطة وحذر حين يختلط الحابل بالنابل، ويجب تحريرها وتفكيكها وإخضاعها لمجهر البحث وقواعد العلم قبل أي خطوة أخرى.
يتبع إن شاء الله..